لم يكن المشهد في عام 1228، دالا على ما حدث قبله بنحو قرنين من الزمان. ففي ذلك العام، قاد فردريك الثاني، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، حملة صليبية إلى القدس، ولم يكتف البابا جريجوري التاسع، الذي كان يخشى سيطرة فريدرك على ايطاليا كاملة، باستخدام سلاح الدين وأصدر حرمانا اللإمبراطور أثناء وجوده في فلسطين، فأرسل فرسان المعبد برسالة سرية إلى الملك الكامل، خامس سلاطين الدولة الأيوبية، كي يهجم على الإمبراطور ويخلصه من عدو خطير، فما كان من الملك الكامل إلا أن أرسل بالرسالة إلى فريدريك. وكان فريدريك أعجوبة عصره، كما يصفه المؤرخون، فهو يعرف تسع لغات من بينها العربية، ومتبحر في العلوم حتى ما يعتبر منها سريا أو سحريا، تقابل مع الملك الكامل وعقدا صلحا معه، لقد كان الهدف من وجود الإمبراطور في فلسطين في هذا الوقت، زيارة المكان الذي تعمد فيه المسيح.
هذا الموقف يذكرنا بأن هناك العديد من الأحداث في التاريخ التي تعبر عن التلاقي بين المسيحيين والمسلمين، الذي أثمر مواقف أخلاقية تبهرنا. ولكن للأسف لا نتذكر إلا مآسي الحروب والقتال والكراهية، قبل الشروع في استكمال سرديتنا دعنا نراعي أن المؤرخين، مثلهم مثل الصحفيين لا يختارون إلا الاستثنائي والشاذ لتدوينه لأنهم يتعايشون مع الطبيعي ويرون أنه لا يستحق التدوين.
تعدد الخطوط وتشابكها
قبل هذا التاريخ بأكثر من مئتي عام، قامت أولى الحملات الصليبية على الشرق. ولا توجد حركة في التاريخ دون أسباب ودوافع وكذلك دون ظروف مساعدة، وإذا حاولنا جمع أسباب الحروب الصليبية نرى أن قيام دولة الأتراك السلاجقة سبب رئيسي لها، ومع ضعف الدولة البيزنطية، نكون أمام المحركين الخارجيين للفرنجة في حملتهم الأولى. لكن الخطوط الرئيسية المحركة من الداخل الأوروبي كانت كثيرة ومتشابكة جدا، ودرج المؤرخون في تبسيطهم للحملة على أنها دعوة دينية من البابا أوربان، لكن أي أسباب داخلية لا تضع في الاعتبار رغبة المدن الإيطالية في توسيع نفوذها التجاري، لم تكن لتفضي إلى أي نتيجة إيجابية للحملة الصليبية الأولى. وتجتمع هذه الأسباب مع مشاعر دينية عميقة مع اقتراب الألفية الاولى للمسيح في مكان يسوده الفقر والجهل وانعدام الأمان وأخبار الحروب والكوارث من الشرق والغرب، ليجد أرضا خصبة في نفوس الجماعة الأولى التي وصلت للشرق في لقاء ستكون له تداعياته على كل الأحداث التي تليه حتى هذه اللحظة – بالأخص - هذه اللحظة.
لا يوجد عاقل يستطيع ان ينكر أن اللقاء الأول كان دموياً بامتياز، المجازر التي ارتكبها الفرنجة تسجلها أخبارهم ورواياتهم قبل ان تسجلها روايات أعدائهم، وكذلك الجانب الديني الغيبي الذي يجعلنا نطالع صفحات كثيرة للمؤرخين الأوائل من الفرنجة، تروي كيف كان رواد الحملة الأوائل يبحثون عن الحربة المقدسة مع رؤى وظهورات تدل بعضهم عليها، وهذه نقطة أخرى جانبية توضح فارق التحضر بين مؤرخي الحملة الأولى من الغربيين والشرقيين، نستطيع ان نحكم ببساطة أن هذا اللقاء بين غرب فوضوي وشرق أكثر تحضراً، ونعني هنا بالشرق الإمبراطورية البيزنطية والدول الإسلامية أيضا، كان التحضر ظاهراً في الفن والعمارة التي بهرت الحجاج الغربيين في القرن العاشر والحادي عشر، وفي التحالفات السياسية بين البيزنطيين والفاطميين آنذاك، وبالطبع مظاهره العلمية والعقلية التي ظهرت في شكل تدوين تاريخ الأحداث بعد ذلك، وخلف كل ذلك كان ازدهار الحياة الاقتصادية دافعا لتطور الحضارة حتى لحظة اللقاء.
إن سردية الرحلة الصليبية الأولى تمتلئ بالفوضى، نحن أمام جماعات أغلبها من الشعب لم تسر في حملة عسكرية سابقا، وأمام قيادات كانوا إلى وقت قريب في صراع مع بعضهم البعض، فالألمان والفرنسيون في بداية الحملة كل منهم كان يقود معاركه دون اتفاق او تنسيق، بجانب أنه عند وصولهم إلى القسطنطينية يكتشفون نفاد المؤن والطعام إذ لم يقدروا طول الرحلة بشكل مناسب، كما أننا نرى الألمان يهاجمون اليهود في طريقهم للأرض المقدسة، والنورمان في جنوب إيطاليا يهاجمون أعدائهم المسيحيين في الأراضي الإيطالية في طريقهم، وكذلك ارتكب الفرنسيون مذابح ضد المسيحيين الأرثوذكس الساكنين حول نيقية.. هناك قصص لمئات المعارك الصغيرة (في الواقع مذابح لجماعات عزل) قام بها جمهور الحملة الأولى ليس لها علاقة بهدفهم المعلن عن تحرير الأرض المقدسة من الكفار.
مذبحة القدس علامة فارقة
تسيطر الحملة على نيقية وأراضي كيليكا وتدخل إنطاكية في أول انتصار مبهج لها، وبمعاونة الإمبراطور البيزنطي تكمل المسير إلى أورشليم، وكانت مذبحة القدس مذبحة مروعة حتى لأهل ذلك الزمان، لقد اندفع الصليبيون يقتلون أي شخص في المدينة لا فرق بين يهودي ومسيحي ومسلم، ولا فرق بين رجل وامرأة وطفل وشيخ، بل حتى من احتمى في الأماكن المقدسة تم قتله. ويتفق رانسيمان وعديد من المؤرخين أنه لولا هذه المذبحة المهولة لما أصر المسلمون مستقبلا على طرد الصليبيين، فقد تعامل المسلمون مع الإمبراطورية البيزنطية المسيحية بشكل واقعي كقوة سياسية، ويبدو أنهم كانوا سيقبلون الفرنجة كعنصر أخر في سياسات هذا الزمان – ولدينا المثال ألا وهو تعاملهم مع الإمبراطورية البيزنطية رغم اختلاف الدين - ولكن بقيت مذبحة القدس عائقاً لا يُنسى أمام أي تعاون مستقبلي آنذاك.
بعد كثير من الدسائس والمؤامرات بين محاربي الصليبيين، يختار الفرنجة جودفري حاكما، ويرفض لقب ملك ويختار لقب (حامي القبر المقدس)، وبعد موته يختار القادة أخيه بلدوين الذي يتم تتويجه ملكا عام 1100م لتتأسس بذلك مملكة أورشليم بعد أربع سنوات من بداية الحملة.وفي 1114م يتوج بلدوين الثاني ملكا خلفا لابن عمه، ووسط أحداث مليئة بالمفاجآت، آن لقراء هذا العصر، الذين يظنون أو يتخيلون أنها كانت حروب دينية بالأساس (المسيحية مقابل الإسلام)، أن يعرفوا بعض المعلومات عما دار على أرض الواقع، فبسبب عدم تسليم الفرنجة مدينة أنطاكية للإمبراطور البيزنطي يتحالف مع العباسيين ضد الفرنجة، وعندما يخرج جيش من مصر بقيادة الفاطميين يتحالف أمراء المدن المسلمة مع الفرنجة لأنهم يفضلون حرية الحكم الذاتي على خضوعهم للفاطميين. وهكذا سوف يقابل القراء المعاصرون العديد من المعارك في الفترة بين عامي 1100 و1119م، يحارب فيها أطراف متنوعون بسبب مصالح وقتيه سياسية، لا بسبب الدين.
بموت بلدوين الثاني في 1131م، ينتهي الجيل الأول من الحملة الصليبية، ويتصارع الجيل الثاني على فرض نفوذه على اقطاعيات خاصة، مثل انطاكية والرها ونابلس، فلم تكن هناك مملكة سوى بالاسم فقط، وفي هذه الأحداث، يتمكن عماد الدين زنكي من استعادة مدينة الرها، مما دفع الفرنجة إلى إرسال الرسائل للبابا مطالبين بحملة ثانية لابد منها. فواقعياً، كان أمراء الفرنجة في الشرق عاجزين عن التعاون مع بعضهم البعض رغم كل الأخطار المحيطة بهم.
وتتحرك الحملة الثانية في 1147م وكأننا أمام الحملة الأولى بكل تفاصيلها، ألمان وفرنسيون يتحرك كل منهم على حدة ويرتابون في بعضهم البعض، اتهامات بالخيانة للإمبراطور البيزنطي وبانه يتحالف مع الأتراك ضد المسيحيين.. مع سلبيات الحملة الأولى نفسها والتي تمثلت في فوضى إدارة الموارد وغيرها من سلبيات... وكانت كل منجزات الحملة أنها حاصرت دمشق أربعة أيام.. أو خمسة.
تدور العديد من التحالفات، ما يهمنا هنا توضيح كيف أن ملك أورشليم يتحرك بجيشه دفاعا عن مصر، وهدفه ألا تسقط في يد نور الدين، فكما السياسة في كل عصر أن تكون قويا تعني بصورة ما أن يكون جيرانك ضعفاء. ولكن يفوز (شيركوه) بمصر لنور الدين عام 1169م، وتبدأ مرحلة جديدة في علاقات الشرق الأوسط (بالمسمى الحديث) سوف تترك تداعياتها أيضا على كل التاريخ اللاحق.
ولهذا حديث آخر.
--------------------------------
بقلم: شنودة الأمير
مقالات سابقة في ملف "نحن والغرب"